وقعت بغرام الأدب الروسي القديم، الأخوة كارامازوف لكاتبها فيودور دوستويفسكي رائعة من روائع الأدب الروسي التي ألفها في عام ١٨٨٠م وتتكون من١٦٠٠م صفحة بحسب إحدى النسخ العربية.
استمتعت بها كثيرًا، استحوذت على انتباهي استحواذًا تامًا حتى آخر الصفحات. وجدت مؤلف هذه الرائعة يعبر عن ماذا أريد وعن ماذا أبحث؛ صحيح أنها تميزت بطولها المفرط إﻻ أنها جذبتني بما كتبه عن اﻻنسان والفضيلة والرذيلة واﻻيمان والالحاد والحوارات الفلسفية والفكرية التي دارت بين الأخوة. هذه أمور تهمني. من ﻻ يهتم بهذه المواضيع فلن يهتم بالرواية ولن تثير اعجابه وسرعان ما سيمل منها. ألزمني الكاتب على عدم ترك القرائة له، لأنني وجدت شيئًا يستحق أن أعطي الوقت اﻻزم له. أول ٢٠٠ صفحة شعرت بالضجر فأغلب هذه الصفحات الأولى عبارة عن تذكير بماضي شخصيات الرواية وتعريفًا بهم، ثم من بعد ذلك منحني متعة كاملة ﻻ مثيل لها.
قبل مقدمة الكتاب وضع “دستويفسكي” هذا النص من الكتاب المقدس:《الحق الحق اقول لكم ان لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن اذا ماتت تأتي بثمر كبير》(يوحنا 12 : 24)
يروي الكاتب عن تجربته بكتابة الأخوه كارامازوف التي هي مبنية كما كتب: على العاطفة والهوى، وتقوم على مفاجآت من السعاده والحزن، قصة تقليدية دقيقة واقعية مع حبكة قائمة على أعلى درجات المنطق. إنه يجيب عن أسئلة سرمدية حسب تعبيره، ماهي الجنة والنار؟ أي متعة أو ألم تمثله هذه المجازات داخل محور النفس البشريه؟ لقد جاوب ليس فقط باﻻسئلة الآهوتيه بل حتى النفسانية والوجودية. ماهي الشروط التي تبني جنة أو جحيمًا نفسيين هنا والآن؟ مالذي يعطي ايفان تلك اللحظتين من السعادة الفائقة والعديمة الجدوى والبكماء التي طالما رغب بها والتي في سبيلها تجده مستعدًا اأن يعطي البلايين والبلايين؟ مالذي يشكل في النهاية إيماننا الحقيقي؟ مالذي يعطينا اليقين؟ يجيب دستوفسكي ويقول : “إن مايجعلنا سعداء أو حزنى والذي يشكل صلابة مشاعرنا وأجسادنا ماهو سوى متعتنا وآﻻمنا العميقة”.
آل كارامازوف أحببت تفاصيل شخصياتهم ومشاهد حياتهم؛ بل وتعلقت بهم مع أنهم عائلة تعيسة جدًا. الابن الأكبر ديمتري الطائش المتهور. الابن الأوسط “إيفان” الملحد المجنون بتصرفاته. والابن الأصغر “اليكسي” المؤمن الطيب. أما الأب “فيودر” المهمل لأبنائه المتشوق لشهواته. بحسب تعبير المترجم للنسخة العربية من الرواية: “كيف سنقوم بترميزهم ياترى؟ هل نرمز للأب “فيودر” أنه روسيا أم الشعب الروسي؟ هل ياترى “ديمتري” الجسد والعاطفة “وايفان” العقل “واليكسي” الايمان والروح؟ في الحقيقة وجدت نفسي بكل هذه الشخصيات بالملحد والمؤمن، و بالمتهور والطيب والمجنون. آه إن هذا الكاتب فعلًا كما قالوا عنه يدخل في أغوار النفس البشرية.
استمتعت بالحوارات التي دارت بين صراع الأب فيودر والابن الأكبر ديمتري في الكنيسة، بعد أن كانوا مدعوون لوليمة الغداء لدى الراهب “زوسيما” اﻻكبر بالدير، واستمتعت أكثر بما حدث بعد موت اﻻب زوسيما ورواية اليكسي لماضي شيخه، وذهلت بحادثة قتل الأب فيودر واعتقال ديمتري، مما جعلني أنهي وجبة الغداء بسرعه، حتى يتسنى لي العودة للقراءة ومعرفة ماتبقى من أحداث.
فيودر دستوفسكي في بداية الكتاب قال عن بطل روايته “أليكسي” أنه جعله البطل مع أنه يعرف أنه ليس رجل عظيم، ويتوارد في أذهاننا مجموعة أسئلة. ما اللافت في أليكسي ليجعله بطلًا؟ ما الذي أنجزه؟ ما الذي اشتهر به؟
يقول: على افتراض أننا قرأنا الرواية ولم نكتشف الإجابة فبالتالي لن نوافقه على رأيه بأليكسي، طبعًا بالنسبه لدستوفسكي “اليكسي” هو شخصيه جديرة باﻻهتمام وبطل غامض يصعب تحديده، ويحمل في داخله القلب الشامل للجميع. وأما باقي الرجال في عمره بتروا منه لسبب ما، وكأن الأمر تم بعصفة ريح عاتية.”
اليكسي بالنسبة لي فقد أحببته كثيرًا، يصفه ديستويفسكي: “شاب مكتمل النور شخص حالم، يستغرق بالتفكير بكل هدوء ووداعه، كان أمينًا بطبيعته، راغبًا في الحقيقة باحثًا عنها ومؤمنًا بها ومستعدًا لخدمتها بكل مافي روحه من قوة مستعدًا للتضحية بأي شيء، وبالحياة نفسها في سبيل الحقيقة. ومثل هؤﻻء الشباب ﻻ يعرفون أن التضحية بالحياة في كثير من الحاﻻت هي أسهل التضحيات، في حين أنك عندما تضحي بخمس أو ست سنوات من شبابك في العمل المضني الجاد لخدمة الحقيقة إنما هي تضحية تفوق قدراتهم، ومع أن اليكسي اختار الطريق المعاكس فإنما اختاره للعطش نفسه ﻻنجاز سريع، وما اقتنع بوجود الله والخلود حتى قال لنفسه: “أريد أن أعيش للخلود ولن أقبل حلًا وسطًا” ووجد اليكسي أنه من المستحيل الاستمرار بالحياة كما عرفها، لأنه مكتوب في انجيل مرقس (اعط كل ماتملك إلى الفقراء واتبعني اذا أردت أن تكون كاملًا) قال اليكسي لنفسه: “ﻻ أستطيع أن أعطي روبلين اثنين بدلًا من الكل وأستطيع فقط الذهاب إلى القداس بدلًا من أن اتبعه”.
اليكسي مؤمن صالح، وبالمعنى الفعلي للصلاح، اﻻ أنه برأيي من الشخصيات التي تستفزني خصوصًا عندما تم وصفه فيما يتعلق الأمر بشيوخه مع أنهم شيوخ صالحين، فهو اختار شيخه وتنازل له عن إرادته وقدمها إليه باستسلام تام! وحرمان كلي للنفس.
يقول دستويفسكي أن “اليكسي في الدير يؤمن بالأعاجيب وبرأيه ليست الأعاجيب سدًا يمنع الواقعية، وليست الأعاجيب هي التي تستميل الواقعيين إلى اﻻيمان، فالواقعي الحقيقي إن كان غير مؤمن سيجد دائمًا قوة وقدرة على عدم الإيمان بالمعجزات، وهو اذا ماقابل أعجوبة وجهًا لوجه على أنها حقيقة ﻻتدحض، فهو عندها لن يصدق حواسه التي اعترفت بالحقيقة، فاﻻيمان بالنسبة له ﻻ يتفجر من الأعجوبة بل الأعجوبة من اﻻيمان، فإن آمن الواقعي مرة، سيصبح ملتزمًا من خلال واقعيته بالاعتراف بما هو من الأعاجيب. قال توما البشير: إنه ﻻ يصدق حتى يرى، لكنه عندما رأى قال : “سيدي وإلهي”! فهل اﻻعجوبة هي التي جعلته يؤمن؟ المحتمل ﻻ، لكنه إنما آمن لأنه رغب في ذلك، ومن المحتمل أنه آمن كليًا في أعماق قلبه حتى عندما قال : ﻻ أؤمن حتى أرى!”
آه ما أجمل دعاء اليكسي وهو “يتمتم في لحظة من اللحظات بعد أن رسم على نفسه اشارة الصليب “الله ابعث الرحمه للجميع واجعل هؤﻻء الخطاة في الطريق الصالح، جميع الطرق لك، انقذهم كما تشير حكمتك أنت، أنت الحب وأنت ترسل الفرح للجميع”.
أما ايفان اﻻبن الثاني فهو شاب ملحد يعيش متمردًا، إنه بحسب كلمات الكاتب ﻻ يرفض الله بل باحترام شديد يعيد إليه البطاقة. ما أثار اعجابي فعلًا حواراته مع أخاه اليكسي، وهو يتحدى أخاه بقوله أتحداك أن تجيب. ؛لو كنت ستؤسس جهازًا للقدر البشري يقوم على توفير السعادة والسلام والراحة للإنسان شرط تعذيب الطفل فهل سترضى؟ قال اليكسي ﻻ لن أرضى! وسأله مرة أخرى وهل تعتقد أن الرجال سيوافقون على قبول سعادتهم انطلاقًا من الدم المسفوك من فرائض بريئة؟ وقبولها يوفر السعادة الدائمة؟ قال اليكسي ﻻ أعتقد. رد ايفان: على حسب الكتاب المقدس فالله يقول (انظروا، أنا آتي بسرعة!) هههه مرت خمسة عشر قرنًا منذ وعده بالحضور إلى الأرض ولم يأتي! واﻻنسانية مازالت تنتظره بالإيمان نفسه والحب عينه، بل بأيمان أكبر، لأنه لهذه القرون الطويلة لم يرسل شيئًا من السماء. صدق ايفان ﻻ اشارت تأتي من السماء لتضيف إلى مايقوله القلب، ومع ذلك فدموع الإنسانية ترتفع الى الله طالبه حضوره وتمر العصور واﻻنسان يصلي بأيمان وحمية “أيها الله فليكن قدومك سريعًا” ومع ذلك يرفض ظهوره للناس”. تعرف أيها القارئ ماذا قال اليكسي لإيفان! قال: ربما أنت من الماسونيين يا ايفان! أنت ﻻ تؤمن بالله! قال: ومع ذلك أنا لم أفقد رغبتي بالحياة.
متعة ليس كمثلها متعة عشتها مع شخصيات الرواية. إن كانت تثير اعجابكم مثل هذه الروائع فعليكم بقرائتها للنهاية حتى ﻻ يكون الحكم عليها كاملًا وليس مبتورًا. فهي تستحق القراءة، وأعظم بكثير مما نقلت واقتبست لكم. آمنت أن على كل واحد منا أن يحفظ في ذاكرته تلك اللحظات التي كان مندهش منها بروعة مايقراء ويتوجب عليكم أثناء القراءة لهذه الروائع أن تتتحلوا بالصبر الجميل وبالفطنة والنباهة!